فصل: تفسير الآية رقم (147)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف والباقون بالفتح، وهما لغتان كالدف والدف، والضعف والضعف وقال الفراء‏:‏ القرح بالفتح الجراحة، وبالضم ألمها، ويقرأ بضم القاف والراء على الاتباع كاليسر واليسر، والطنب والطنب وقرأ أبو السمال بفتحهما وهو مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال وأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله تعالى ما لا يرجون، والمضارع على ما ذهب إليه العلامة التفتازاني لحكاية الحال لأن المساس مضى، وأما استعمال إن فبتقدير كان أي إن كان مسكم قرح، وإن لا تتصرف في كان لقوة دلالته على المضي، أو على ما قيل‏:‏ إن ‏{‏ءانٍ‏}‏ قد تجيء لمجرد التعليق من غير نقل فعله من الماضي إلى المستقبل، وما وقع في موضع جواب الشرط ليس بجواب حقيقة لتحققه قبل هذا الشرط بل دليل الجواب، والمراد إن كان مسكم قرح فذلك لا يصحح عذركم وتقاعدكم عن الجهاد بعد لأنه قد مس أعداءكم مثله وهم على ما هم عليه، أو يقال‏:‏ إن مسكم قرح فتسلوا فقد مسّ القوم قرح مثله، والمثلية باعتبار كثرة القتلى في الجملة فلا يرد أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين وجرحوا سبعين، والتزم بعضهم تفسير القرح بمجرد الانهزام دون تكثير القتلى فراراً من هذا الإيراد، وأبعد بعض في توجيه الآية وحملها على ما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى فقال‏:‏ الأوجه أن يقال‏:‏ إن المراد إن يمسسكم قرح فلا تنهوا لأنه مس القوم أي الرجال قرح مثله والقرح للرجال لا للنساء فمن هو من زمرة الرجال ينبغي أن لا يعرض عما هو سمته بل ينبغي أن يسعى له، وبهذا يظهر بقاء وجه التعبير بالمضارع وأنه على ظاهره، وكذا يندفع ما قيل‏:‏ إن قرح القوم لم يكن مثل قرحهم ولا يحتاج إلى ما تقدم من الجواب‏.‏ وقيل‏:‏ إن كلا المسَّين كان في أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا منهم نيفاً وعشرين رجلاً أحدهم صاحب لوائهم، وجرحوا عدداً كثيراً وعقروا عامة خيلهم بالنبل، وقيل‏:‏ إن ذلك القرح الذي مسهم أنهم رجعوا خائبين مع كثرتهم وغلبتهم بحفظ الله تعالى للمؤمنين‏.‏

‏{‏وَتِلْكَ الايام‏}‏ اسم الإشارة مشار به إلى ما بعده كما في الضمائر المبهمة التي يفسرها ما بعدها نحو ربه رجلاً ومثله يفيد التفخيم والتعظيم، والأيام بمعنى الأوقات لا الأيام العرفية، وتعريفها للعهد إشارة إلى أوقات الظفر والغلبة الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية، ويوما بدر وأحد داخلان فيها دخولاً أولياً‏.‏

‏{‏نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏ نصرفها بينهم فنديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى كما وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد، والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال‏:‏ تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى واحد، و‏{‏الناس‏}‏ عام، وفسره ابن سيرين بالأمراء، واسم الإشارة مبتدأ، والأيام خبره، و‏{‏نُدَاوِلُهَا‏}‏ في موضع الحال، والعامل فيها معنى الإشارة أو خبر بعد خبر، ويجوز أن تكون الأيام صفة أو بدلاً أو عطف بيان، و‏{‏نُدَاوِلُهَا‏}‏ هو الخبر، و‏{‏بَيْنَ الناس‏}‏ ظرف لنداولها، وجوز أن يكون حالاً من الهاء، وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإعلام بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة إلى أن يأتي أمر الله تعالى ومن كلامهم‏:‏ الأيام دول والحرب سجال، وفي هذا ضرب من التسلية للمؤمنين، وقرىء يداولها‏.‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ تعليل لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة المشار إليها فيما قبل، وهي المداولة المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين، واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين؛ أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما، والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين ‏(‏محذوفة‏)‏ للدلالة المذكورة عليها كأنه قيل‏:‏ نداولها بينكم وبين عدوكم ليظهر أمركم وليعلم، وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيما عد من الأمور، وأن العبد يسوؤه ما يجري عليه ولا يشعر بما لله في طيه من الألطاف، كأنه قيل‏:‏ نجعلها دولاً بينكم لتكون حكماً وفوائد جمة وليعلم الخ، وفيه من تأكيد التسلية ما لا يخفى، وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية بين بقية الأمم تعييناً أو إبهاماً لعدم تعلق الغرض العلمي ببيانها، ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالاً إلى أن كل فرد من أفرادها له علة داعية في الظاهر إليه كأنه قيل‏:‏ نداولها بين الناس كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الأفراد وليعلم الخ، فاللام الأولى‏:‏ متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد، والثانية‏:‏ باعتبار تقييده بالفرد المعهود قاله مولانا شيخ الإسلام‏.‏

وجوزوا أن يكون الفعل معطوفاً على ما قبله باعتبار المعنى كأنه قيل‏:‏ داولت بينكم الأيام لأن هذه عادتنا وليعلم الخ، وقيل‏:‏ إن الفعل المعلل به محذوف ويقدر مؤخراً، والتقدير‏:‏ وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك، ومنهم من زعم زيادة الواو وهو من ضيق المجال والكلام من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم، والعلم فيه مجاز عن التمييز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم‏.‏

وحمل العلم على التمييز في حال التمثيل تطويل من غير طائل، واختار غير واحد حمل العلم على التعلق التنجيزي المترتب عليه الجزاء‏.‏ وقد تقدم بعض الكلام على ذلك في البقرة‏.‏ وبالجملة لا يرد لزوم حدوث العلم الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإشعار بأن اسم الإيمان لا ينطلق على غيره‏.‏

وزعم بعضهم أن التقدير ليعلم الله المؤمن من المنافق إلا أنه استغنى بذكر أحدهما عن الآخر ولا حاجة إليه، ومثله القول بحذف المضاف أي صبر الذين، والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته التي استجمعها هذا الاسم الأعظم مغاير لمنشأ الآخر‏.‏

‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏ جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء أحد كما قاله الحسن وقتادة وابن إسحق، و‏(‏ من‏)‏ ابتدائية أو تبعيضية متعلقة بيتخذ أو بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏شُهَدَاء‏}‏، وقيل‏:‏ جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهوداً معدلين بما ظهر ‏(‏منهم‏)‏ من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة، و‏(‏ من‏)‏ على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ لما أبطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير فقالت امرأة من الأنصار‏:‏ من هذان‏؟‏ قالوا‏:‏ فلان وفلان أخوها وزوجها أو زوجها وابنها فقالت‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ حيّ قالت‏:‏ فلا أبالي يتخذ الله تعالى من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت، ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏ وكنى بالإتخاذ عن الإكرام لأن من اتخذ شيئاً لنفسه فقد اختاره وارتضاه فالمعنى ليكرم أناساً منكم بالشهادة‏.‏

‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ أي يبغضهم، والمراد من الظالمين إما المنافقون كابن أبيّ وأتباعه الذين فارقوا جيش الإسلام على ما نقلناه فيما قبل فهم في مقابلة المؤمنين فيما تقدم المفسر بالثابتين على الإيمان الراسخين فيه الذين توافق ظواهرهم بواطنهم، وإما بمعنى الكافرين المجاهرين بالكفر، وأياً ما كان فالجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها، وفيها تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافر على الحقيقة وإنما يغله أحياناً استدراجاً له وابتلاءاً للمؤمن، وأيضاً لو كانت النصرة دائماً للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل، والمقصود غير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي ليطهرهم من الذنوب ويصفيهم من السيئات‏.‏ وأصل التمحيص كما قال الخليل‏:‏ تخليص الشيء من كل عيب يقال‏:‏ محصت الذهب إذا أزلت خبثه‏.‏ والجملة معطوفة على ‏{‏يتخذ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏ وتكرير اللام للاعتناء بهذه العلة ولذلك أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار أو لتذكير التعليل لوقوع الفصل بينهما بالاعتراض‏.‏ وهذه الأمور الثلاثة كما قال مولانا شيخ الإسلام علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان‏.‏ ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين في الظالمين أو لتقترن بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَمْحَقَ الكافرين‏}‏ لما بينهما من المناسبة حيث إن في كل من التمحيص والمحق إزالة إلا أن في الأول‏:‏ إزالة الآثار وإزاحة الأوضار‏.‏ وفي الثاني‏:‏ إزالة العين وإهلاك النفس، وأصل المحق تنقيص الشيء قليلاً قليلاً ومنه المحاق والمعنى ويهلك الكافرين، ولا يبقى منهم أحداً ينفخ النار‏.‏ وهذا علة للمداولة باعتبار كونها عليهم‏.‏ والمراد منهم هنا طائفة مخصوصة وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر فإن الله تعالى محقهم جميعاً، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون هذا علة للمداولة باعتبار كونها على المؤمنين أيضاً فإن الكفار إذا غلبوا أحياناً اغتروا وأوقعهم الشيطان في أوحال الأمل ووسوس لهم فبقوا مصرين على الكفر فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم وخلدهم في النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف ‏(‏سيق‏)‏ لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول، و‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري، وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادىء الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها‏.‏

‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تَدْخُلُواْ‏}‏ مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عن العقول، ولهذا قيل‏:‏

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس

وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي‏.‏ ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيراً ما يقال‏:‏ ما علم الله تعالى في فلان خيراً ويراد ما فيه خير حتى يعلمه، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا‏؟‏ فيه تردد والذي قطع به صاحب «الانتصاف» الثاني، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة، وفي ذلك رمز أيضاً إلى ترك الرياء، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتقاء ذلك، وعدم تحققه أصلاً وكيف تحقق صفة بدون موصوف، وفي اختيار ‏{‏لَّمّاً‏}‏ على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناءاً على ما يفهم من كلام سيبويه أن ‏(‏لما‏)‏ تدل على توقع الفعل المنفي بها، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل‏:‏ قد فعل فلان فجوابه لما يفعل، وإذا قيل‏:‏ فعل‏؟‏ فجوابه لم يفعل، فإذا قيل‏:‏ لقد فعل، فجوابه ما فعل كأنه قال‏:‏ والله لقد فعل فقال المجيب‏:‏ والله ما فعل، وإذا قيل‏:‏ هو يفعل يريد ما يستقبل، فجوابه لا يفعل، وإذا قيل‏:‏ سيفعل، فجوابه لن يفعل، فقول أبي حيان‏:‏ «إن القول بأن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحداً من النحويين ذكره» غير متعدّ به، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار، وقرىء، ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏ بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أومطلقاً، ومن ذلك قوله‏:‏

إذا قلت قدني قال بالله حلفة *** لتغني عني ذا أنائك أجمعا

على رواية فتح اللام؛ وقيل‏:‏ إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه، و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ حال من ‏{‏الذين‏}‏ و‏(‏ من‏)‏ فيه للتبعيض، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمَ الصابرين‏}‏ نصب بإضمار أن، وقيل‏:‏ بواو الصرف، والكلام على طرز لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤوس الآي، وقيل‏:‏ الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع، ويؤيد ذلك قراءة الحسن ‏{‏وَيَعْلَمَ الصابرين‏}‏ بكسر الميم، وقرىء ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏ بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل‏:‏ ولما تجاهدوا وأنتم صابرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت‏}‏ خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون‏:‏ ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحداً لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم‏.‏ فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلاً يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمنى الحرب لا الموت‏.‏

‏{‏مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ‏}‏ متعلق بتمنون‏}‏ مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله، وقرىء بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك، وقرىء ‏(‏تلاقوه‏)‏ من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى ‏(‏الموت‏)‏، وقيل‏:‏ إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء‏.‏

‏{‏‏}‏ مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله، وقرىء بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك، وقرىء ‏(‏تلاقوه‏)‏ من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى ‏(‏الموت‏)‏، وقيل‏:‏ إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء‏.‏

‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ‏}‏ أي ما تمنيتموه من الموت بمشاهدة أسبابه أو أسبابه، والفاء فصيحة كأنه قيل‏:‏ إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه، وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له، وهذا على حد قولك‏:‏ رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا شبهة، وقيل‏:‏ تنظرون بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي، وقيل‏:‏ معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏ روي أنه لما التقى الفئتان يوم أحد وحميت الحرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني‏؟‏ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ثم تعمم بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول‏:‏

أنا الذي عاهدني خليلي *** ونحن بالسفح لدى النحيل

أن لا أقوم الدهر في الكبول *** أضرب بسيف الله والرسول

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلا في هذا الموضع فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله وقاتل علي كرم الله تعالى وجهه قتالاً شديداً حتى التوى سيفه وأنزل الله تعالى النصر على المسلمين وأدبر المشركون فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا والمسلمون ينتهبون الغنيمة خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً منهم فانطلقوا إلى العسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال الناس بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين وحمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفهم في مائتين وخمسين فارساً ففرقوهم وقتلوا نحواً من ثلاثين رجلاً ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية رضي الله تعالى عنه حتى قتله ابن قميئة‏.‏

وقيل‏:‏ إن الرامي عتبة بن أبي وقاص فرجع وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني قتلت محمداً وصرخ صارخ لا يدري من هو حتى قيل‏:‏ إنه إبليس ألا إن محمداً قد قتل فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو‏:‏ إليّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وكان يقول ارم فداك أبي وأمي وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وعين قتادة حتى وقعت على وجنته فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول‏:‏ لا نجوت إن نجوت فقال القوم‏:‏ يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال‏:‏ دعوه حتى إذا دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهدى من فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول‏:‏ قتلني محمد وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له‏:‏ بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى فاحتمله أصحابه وقالوا‏:‏ ليس عليك بأس قال‏:‏ بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي‏:‏ أقتلك‏؟‏ فلو بزق عليَّ بعد تلك المقالة قتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف‏.‏

ولما فشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل قال بعض المسلمين‏:‏ ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبيّ فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم‏.‏ وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك‏:‏ إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك عما قال هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه‏.‏

وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك قال‏:‏ «عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا‏:‏ يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين» فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

ومحمد علم لنبينا صلى الله عليه وسلم منقول من اسم المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبد المطلب لسابع ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها‏:‏ رجوت أن يحمد في السماء والأرض، ومعناه قبل النقل من يحمد كثيراً وضده المذمم، وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألم تروا كيف صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمماً وأنا محمد»‏.‏ وقد جمع هذا الاسم الكريم من الأسرار ما لا يحصى حتى قيل‏:‏ إنه يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة والسلام وعبر عنه صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم هنا لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ، وهو مرفوع على الابتداء وخبره ما بعد إلا ولا عمل لما بالاتفاق لانتقاض نفيه بإلا، واختلفوا في القصر هل هو قصر قلب أم قصر إفراد‏؟‏ فذهب العلامة الطيبي وجماعة إلى أنه قصر قلب لأنه جعل المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم اعتقدوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه فتكون جملة ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ الخ صفة لرسول منبئة عن كونه صلى الله عليه وسلم في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوه لا محالة كأنه قيل‏:‏ قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا، والقصر منصب على هذه الصفة فلا يرد أنه يلزم من قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة لأن ذلك ناشىء من الذهول عن الوصف، وقيل‏:‏ الجملة في موضع الحال من الضمير في ‏{‏رَّسُولٍ‏}‏ والانصباب هو الانصباب‏.‏

وذهب صاحب «المفتاح» إلى أنه قصر إفراد إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل استعظامهم عدم بقائه صلى الله عليه وسلم منزلة استبعادهم إياه وإنكارهم له حتى كأنهم اعتقدوا فيه وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فقصر على الرسالة نفياً للبعد عن الهلاك، واعترض بأنه يتعين على هذا جعل جملة ‏{‏قد خلت مستأنفة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس بعيداً عن عدم البقاء كسائر الرسل إذ على اعتبار الوصف لا يكون إلا قصر قلب لانصباب القصر عليه، وكون الجملة مستأنفة بعيد لمخالفته القاعدة في الجمل بعد النكرات، وأجيب بأن ذلك ليس بمتعين لجواز أن تكون صفة أيضاً مؤكدة لمعنى القصر متأخرة عنه في التقدير، وقرأ ابن عباس رسل بالتنكير‏.‏

‏{‏أَفَإيْن مَّاتَ أَوْ قُتلَ انقلبتم على أعقابكم‏}‏ الهمزة للإنكار والفاء استئنافية أو لمجرد التعقيب، والانقلاب على الأعقاب في الأصل الرجوع القهقرى، وأريد به الارتداد والرجوع إلى ما كانوا عليه من الكفر في المشهور، والغرض إنكار ارتدادهم عن الدين بخلوه صلى الله عليه وسلم بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به، واستشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر بالانقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك‏؟‏ وأجيب بأنه ليس المراد ارتداداً حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامهم إياه للهلك، وقيل‏:‏ الإنكار هنا بمعنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي لا إنكار لما وقع، وقيل‏:‏ هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به‏.‏

وحمل بعضهم الانقلاب هنا على نقص الإيمان لا الكفر بعده احتجاجاً بما أخرجه ابن المنذر عن الزهري قال‏:‏ ‏{‏لما نزلت هذه الآية ‏{‏لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص‏؟‏ قال‏:‏ إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا‏:‏ فهل لذلك دلالة في كتاب الله تعالى‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم‏}‏ والانقلاب نقصان لا كفر ولا يخفى أن هذا الخبر ليس من القوة إلى حيث يحتج به وإني لا أجد عليه طلاوة الأحاديث الصحيحة‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبب، والهمزة لإنكار ذلك أي لا ينبغي أن تجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابكم على أعقابكم بعد موته أو قتله بل اجعلوه سبباً للتمسك بدينه كما هو حكم سائر الأنبياء عليهم السلام ففي انقلابكم على أعقابكم تعكيس لموجب القضية المحققة التي هي كونه رسولاً يخلو كما خلت الرسل، وإيراد الموت بكلمة ‏(‏إن‏)‏ مع العلم ‏(‏به‏)‏ البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه، قال المولى‏:‏ وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة ‏(‏إن‏)‏ في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها أصلاً ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع، أو أمر آخر يناسب المقام‏.‏

والمراد من الموت الموت على الفراش وبالقتل الموت بواسطة نقض البنية وقدم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي كاد يجرّ الموت الأحمر لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على الثبات هناك أهم، ولأن الوصف الجامع في نفس الأمر بينه صلى الله عليه وسلم وبين الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الموت دون القتل خلافاً لمن زعمه مستدلاً بما ورد من أكلة خيبر، وإن كان قد وقع فيهم قتل وموت وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لتجويز المخاطبين له وآية ‏{‏والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ على تقدير نزولها قبل أحد يحتمل أنها لم تصل هؤلاء المنهزمين، وبتقدير وصولها احتمال أن لا تحضرهم قائم في مثل ذلك المقام الهائل‏.‏

وقد غفل عمر رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقد روى أبو هريرة أنه رضي الله تعالى عنه قام يومئذٍ فقال‏:‏ إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل‏:‏ قد مات والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، فخرج أبو بكر فقال‏:‏ على رسلك يا عمر أنصت فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت، ثم تلى هذه الآية ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ‏}‏ إلى آخرها فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذٍ فأخذها الناس من أبي بكر، وقال عمر‏:‏ فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، والاعتذار باختصاص فهم آية العصمة بالعلماء من الصحابة وذوي البصيرة منهم مع ظهور معنى اللفظ كما اعتذر به الزمخشري لا يخفى ما فيه، وكون المراد منها العصمة من فتنة الناس وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يظن به ذلك، وإنما يرد مثله في معرض الإلهاب والتعريض‏.‏

‏{‏وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله‏}‏ بما فعل من الانقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب، ويشير إلى ذلك توجه النفي إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه ‏{‏وَسَيَجْزِى الله الشاكرين‏}‏ أي سيثيب الثابتين على دين الإسلام، ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشىء عن تيقن حقيته وذلك شكر له، وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين، وإلى تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد رواه عنه ابن جرير، وكان يقول‏:‏ الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير الشاكرين، وعن ابن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين والأنصار، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان بمزيد الاعتناء بشأن جزائهم واتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ استئناف سيق للحض على الجهاد واللوم على تركه خشية القتل مع قطع عذر المنهزمين خشية ذلك بالكلية‏.‏ ويجوز أن يكون تسلية عما لحق الناس بموت النبي صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه عليه السلام كغيره لا يموت إلا بإذن الله تعالى فلا عذر لأحد بترك دينه بعد موته‏.‏ والمراد بالنفس الجنس وتخصيصها بالنبي عليه الصلاة والسلام كما روي عن ابن إسحق ليس بشيء، والموت هنا أعم من الموت حتف الأنف والموت بالقتل، كما سنحققه، وكان ناقصة اسمها أن تموت ولنفس متعلق بمحذوف وقع خبراً لها، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب‏.‏ وذهب أبو البقاء إلى أن ‏(‏بإذن الله‏)‏ خبر كان ولنفس متعلق بها واللام للتبيين، ونقل عن بعضهم أن الجار متعلق بمحذوف تقديره الموت لنفس، و‏{‏أَنْ تَمُوتَ‏}‏ تبيين للمحذوف، وحكي عن الزجاج وبعض عن الأخفش أن التقدير وما كان نفس لتموت ثم قدمت اللام وكل هذه الأقوال أوهن من الوهن لا سيما الأخير، والمعنى ما كان الموت حاصلاً لنفس من النفوس مطلقاً بسبب من الأسباب إلا بمشيئة الله تعالى وتيسيره‏.‏ والإذن مجاز عن ذلك لكونه من لوازمه، وظاهر التركيب يدل على أن الموت من الأفعال التي قدم عليها اختياراً فقد شاع استعمال ما كان لزيد أن يفعل كذا فيما إذا كان ذلك الفعل اختيارياً لكن الظاهر هنا متروك بأن يجعل ذلك من باب التمثيل بأن صور الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الفعل الاختياري الذي لا يقدم عليه إلا بالإذن‏.‏ والمراد عدم القدرة عليه، أو بتنزيل إقدام النفوس على مباديه كالقتال مثلاً منزلة الإقدام عليه نفسه للمبالغة أو تحقيق المرام فإن موتها لما استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر، ويجوز على هذا أن يبقى الإذن على حقيقته ومفعوله مقدر للعلم به، والمراد بإذنه تعالى إذنه لملك الموت فإنه الذي يقبض روح كل ذي روح بشراً كان أو لا شهيداً كان أو غير شهيد، براً أو بحراً حتى قيل‏:‏ إنه يقبض روح نفسه، واستثنى بعضهم أرواح شهداء البحر فإن الله تعالى هو الذي يقبضها بلا واسطة واستدل بحديث جويبر وهو ضعيف جداً وفيه من طريق الضحاك انقطاع، وذهب المعتزلة إلى أن ملك الموت إنما يقبض أرواح الثقلين دون غيرهم، وقال بعض المبتدعة‏:‏ إنه يقبض الجميع سوى أرواح البهائم فإن أعوانه هم الذين يقبضونها ولا تعارض بين ‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ و‏{‏يتوفاكم مَّلَكُ الموت‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏ لأن إسناد ذلك له تعالى بطريق الخلق والإيجاد الحقيقي، وإلى الملك لأنه المباشر له، وإلى الرسل لأنهم أعوانه المعالجون للنزع من العصب والعظم واللحم والعروق‏.‏

‏{‏كتابا‏}‏ مصدر مؤكد لعامله المستفاد من الجملة السابقة والمعنى كتب ذلك الموت المأذون فيه كتاباً ‏{‏مُّؤَجَّلاً‏}‏ أي موقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وقيل‏:‏ حكماً لازماً مبرماً وهو صفة كتاباً ولا يضر التوصيف بكون المصدر مؤكداً بناءاً على أنه معلوم مما سبق وليس كل وصف يخرج عن التأكيد، ولك لما في ذلك من الخفاء أن تجعل المصدر لوصفه مبيناً للنوع وهو أولى من جعله مؤكداً، وجعل ‏{‏مُّؤَجَّلاً‏}‏ حالاً من الموت لا صفة له لبعد ذلك غاية البعد فتدبر‏.‏ وقرىء ‏{‏موجلاً‏}‏ بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف‏.‏

وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين أن المقتول ميت بأجله أي بوقته المقدر له وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل إذ على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا بالحياة، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن المقتول ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت فعل الله سبحانه أي مفعوله وأثر صفته، وأن للمقتول أجلين‏:‏ أحدهما‏:‏ القتل والآخر‏:‏ الموت وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، وذهب أبو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات ألبتة في ذلك الوقت‏.‏ وذهب الجمهور منهم إلى أن القاتل قد قطع على المقتول أجله وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل، وليس النزاع بين الأصحاب والجمهور لفظياً كما رآه الأستاذ وكثير من المحققين حيث قالوا‏:‏ إنه إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكان المقتول ميتاً بأجله بلا خلاف من المعتزلة في ذلك إذ هم لا ينكرون كون المقتول ميتاً بالأجل الذي علمه الله تعالى وهو الأجل بسبب القتل، وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك بلا خلاف من الأصحاب فيه إذ هم يقولون بعدم كون المقتول ميتاً بالأجل غير المرتب على فعل العبد لأنا نقول حاصل النزاع أن المراد بأجل المقتول المضاف إليه زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل يعش كذا في «شرح المقاصد»، ولعله جواب باختيار الشق الأول، وهو أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقاً بل على ما علمه تعالى وقدره بطريق القطع وحينئذٍ يصلح محلاً للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول كما يقوله المعتزلة تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم تقدم موته بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه، وقد يقال‏:‏ إنه يمكن أن يكون جواباً باختيار شق ثالث وهو المقدر بطريق القطع إذ لا تعرض في تقرير الجواب للعلم والمقدر أخص من الأجل المعلوم مطلقاً والفرق بينه وبين كونه جواباً باختيار الأول لكن لا مطلقاً اعتبار قيد العلم في الأجل الذي هو محل النزاع على تقدير اختيار الأول وعدم اعتباره فيه على اختيار الثالث وإن كان معلوماً في الواقع أيضاً فافهم، ثم إن أبا الحسين ومن تابعه يدعون الضرورة في هذه المسألة وكذا الجمهور في رأي البعض، وعند البعض الآخر هي عندهم استدلالية‏.‏

واحتجوا على مذهبهم بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر وبأنه لو كان المقتول ميتاً بأجله لم يستحق القاتل ذماً ولا عقاباً ولم يتوجه عليه قصاص ولا غرم دية ولا قيمة في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع أجلاً ولم يحدث بفعله موتاً، وبأنه ربما يقتل في الملحمة والحرب ألوف تقضي العادة بامتناع اتفاق موتهم في ذلك الوقت بآجالهم، وتمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت المقتول لكان القاتل قاطعاً لأجل قدره الله تعالى ومغيراً لأمر علمه وهو محال، والكعبي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ حيث جعل القتل قسيماً للموت بناءاً على أن المراد بالقتل المقتولية وأنها نفس بطلان الحياة وأن الموت خاص بما لا يكون على وجه القتل ومتى كان الموت غير القتل كان للمقتول أجلان‏:‏ أحدهما‏:‏ القتل، والآخر‏:‏ الموت‏.‏

وأجيب عن متمسك الأولين‏:‏ الأول‏:‏ بأن تلك الأحاديث أخبار آحاد فلا تعارض الآيات القطعية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ أو بأن المراد من أن الطاعة تزيد في العمر أنها تزيد فيما هو المقصود الأهم منه وهو اكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي بها تستكمل النفوس الإنسانية وتفوز بالسعادة الأبدية، أو بأن العمر غير الأجل لأنه لغة الوقت، وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل الدين شهران أو آخر شهر كذا، ثم شاع استعماله في آخر مدة الحياة، ومن هنا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان عنده على ما قررناه‏.‏ والعمر لغة مدة الحياة كعمر زيد كذا ومدة البقاء كعمر الدنيا وكثيراً ما يتجوز به عن مدة بقاء ذكر الناس الشخص للخير بعد موته، ومنه قولهم‏:‏ ذكر الفتى عمره الثاني؛ ومن هنا يقال لمن مات وأعقب ذكراً حسناً وأثراً جميلاً‏:‏ ما مات، فلعله أراد صلى الله عليه وسلم أن تلك الطاعات تزيد في هذا العمر لما أنها تكون سبباً للذكر الجميل، وأكثر ما ورد ذلك في الصدقة وصلة الرحم وكونهما مما يترتب عليهما ثناء الناس مما لا شبهة فيه قيل‏:‏ ولهذا لم يقل صلى الله عليه وسلم في ذلك إنه يزيد في الأجل، أو بأن الله تعالى كان يعلم أن هذا المطيع لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين مثلاً لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبة هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناءاً على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت هذه الزيادة‏.‏

ومحصل هذا أنه سبحانه قدر عمره سبعين بحيث لا يتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه بأن طاعته تصير سبباً لثلاثين فتصير مع أربعين من غير الطاعة سبعين، وليس محصل ذلك أنه تعالى قدره سبعين على تقدير وأربعين على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل والأصحاب لا يقولون به‏.‏ والثاني‏:‏ بأن استحقاق الذم والعقاب وتوجه القصاص أو غرم الدية مثلاً على القاتل ليس بما يثبت في المحل من الموت بل هو بما اكتسبه وارتكبه من الإقدام على الفعل المنهي عنه الذي يخلق الله تعالى به الموت كما في سائر الأسباب والمسببات لا سيما عند ظهور أمارات البقاء وعدم ما يظن معه حضور الأجل حتى لو علم موت شاة بإخبار صادق معصوم، أو ظهرت الإمارات المفيدة لليقين لم يضمن عند بعض الفقهاء، والثالث‏:‏ بأن العادة منقوضة أيضاً بحصول موت ألوف في وقت واحد من غير قتال ولا محاربة كما في أيام الوباء مثلاً على أن التمسك بمثل هذا الدليل في مثل هذا المطلب في غاية السقوط‏.‏

وأجيب عن متمسك أبي الهذيل بأن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذٍ لا نسلم لزوم المحال وبأنه لا استحالة في قطع الأجل المقدر الثابت لولا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير له، وعن متمسك الكعبي المخالف للمعتزلة والأشاعرة في إثبات الأجلين بأن القتل قائم بالقاتل وحال له لا للمقتول وإنما حاله الموت وانزهاق الروح الذي هو بإيجاد الله تعالى وإذنه ومشيئته وإرادة المقتولية المتولدة عن قتل القاتل بالقتل وهي حال المقتول إذ هي بطلان الحياة والتخصيص بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به ‏{‏أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ خلاف مذهبه من إنكار القضاء والقدر في أفعال العباد إذ بطلان الحياة المتولد من قتل القاتل أجل قدره الله تعالى وعينه وحدده، ومعنى الآية كما أشرنا إليه أفئن مات حتف أنفه بلا سبب، أو مات بسبب القتل، فتدل على أن مجرد بطلان الحياة موت ومن هنا قيل‏:‏ إن في المقتول معنيين قتلاً هو من فعل الفاعل وموتاً هو من الله تعالى وحده‏.‏

وذهبت الفلاسفة إلى مثل ما ذهب إليه الكعبي من تعدد الأجل فقالوا‏:‏ إن للحيوان أجلاً طبيعياً بتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجالاً اخترامية تتعدد بتعدد أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات، وبيانه أن الجواهر التي غلبت عليها الأجزاء الرطبة ركبت مع الحرارة الغريزية فصارت لها بمنزلة الدهن للفتيلة المشعلة وكلما انتقصت تلك الرطوبات تبعتها الحرارة الغريزية في ذلك حتى إذا انتهت في الانتقاص وتزايد الجفاف انطفأت الحرارة كانطفاء السراج عند نفاد دهنه فحصل الموت الطبيعي وهو مختلف بحسب اختلاف الأمزجة وهو في الإنسان في الأغلب تمام مائة وعشرين سنة‏.‏ وقد يعرض من الآفات مثل البرد المجمد والحرب المذوب وأنواع السموم وأنواع تفرق الاتصال وسوء المزاج ما يفسد البدن ويخرجه عن صلاحه لقبول الحياة إذ شرطها اعتدال المزاج فيهلك بسببه وهذا هو الأجل الاحترامي، ويرد ذلك أنه مبني على قواعدهم من تأثير الطبيعة والمزاج وهو باطل عندنا إذ لا تأثير إلا له سبحانه وتلك الأمور عندنا أسباب عادية لا عقلية كما زعموا‏.‏

وادعى بعض المحققين أن النزاع بيننا وبين الفلاسفة كالنزاع بيننا وبين المعتزلة على رأي الأستاذ لفظي إذ هم لا ينكرون القضاء والقدر فالوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه بأي سبب كان واحد عندهم أيضاً، وما ذكروه من الأجل الطبيعي نحن لا ننكره أيضاً لكنهم يجعلون اعتدال المزاج واستقامة الحرارة والرطوبة ونحو ذلك شروطاً حقيقة عقلية لبقاء الحياة ونحن نجعلها أسباباً عادية وذلك بحث آخر وسيأتي تتمة الكلام على هذه المسألة إذ الأمور مرهونة لأوقاتها ولكل أجل كتاب‏.‏

‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ أي بعمله كالجهاد ‏{‏ثَوَابَ الدنيا‏}‏ كالغنيمة ‏{‏نُؤْتِهِ‏}‏ بنون العظمة على طريق الالتفات ‏{‏مِنْهَا‏}‏ أي شيئاً من ثوابها إن شئنا فهو على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏ وهذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد عن مصلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم تفصيل ذلك‏.‏ ‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ أي بعمله كالجهاد أيضاً والذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏ثَوَابَ الاخرة‏}‏ مما أعدّ الله تعالى لعباده فيها من النعيم ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ أي من ثوابها ما نشاء حسبما جرى به قلم الوعد الكريم، وهذا إشارة إلى مدح الثابتين يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال‏.‏

‏{‏وَسَنَجْزِى الشاكرين‏}‏ يحتمل أنه أريد بهم المريدون للآخرة، ويحتمل أنه أريد بهم جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولاً أولياً‏.‏

والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يضيق عنه نطاق البيان ما لا يخفى، وبذلك جبر اتحاد العبادتين في شأن الفريقين واتضح الفرق لذي عينين، وقرئت الأفعال الثلاثة بالياء‏.‏

هذا ومن باب الإشارة‏:‏ ‏{‏رَّحِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة‏}‏ إما إشارة إلى الأمر بالتوكل على الله تعالى في طلب الرزق والانقطاع إليه، أو رمز إلى الأمر بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين من غير طلب نفع منهم، فقد ورد في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة، أو إيماء إلى عدم طلب الأجر على الأعمال بأن يفعلها محضاً لإظهار العبودية ‏{‏واتقوا الله‏}‏ من أكل الربا ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 130‏]‏ أي تفوزون بالحق ‏{‏واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 131‏]‏ أي اتقوني في النار لأن إحراقها وعذابها مني، وهذا سرّ عين الجمع قالوا‏:‏ ويرجع في الحقيقة إلى تجلي القهر وهو بظاهره تخويف للعوام والتخويف الأول للخواص، وقليل ما هم ‏{‏وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ وهي ستر أفعالكم التي هي حجابكم الأعظم عن رؤية الحق ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والارض‏}‏ وهي جنة توحيد الأفعال وهو توحيد عالم الملك، ولذا ذكر سبحانه السموات والأرض وذكر العرض دون الطول لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي تصل إليه أفهام الناس ويقدرونه، وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدر قدرها إذ الفعل مظهر الوصف، والوصف مظهر الذات، والذات لا نهاية لها ولا حد ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا هذه الجنة، وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولاً وعرضاً ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏ حجب أفعالهم وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله، ويحتمل أنه سبحانه دعا خلقه على اختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على اختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر‏.‏ وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله عليه وسلم «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك» فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين المعرفتين، ولهذا قيل‏:‏ ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى ودعاهم أيضاً إلى ما يجرّهم إلى الجنة، والخطاب بذلك إن كان للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته وجنته مشاهدته، وفي حقيقة الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار، ومن هنا قيل‏:‏ ليس في الجنة إلا الله تعالى وإن كان الخطاب بالنظر إلى آحاد المؤمنين فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها الذي أفصح به لسان الشريعة ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج الإلهية الذين ينفقون نفائس نفوسهم لمولاهم في السراء والضراء في حالتي الجمال والجلال، ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضي الله تعالى لصحة توكلهم عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية وكظمهم له قد يكون بالشدّ عليه بوكاء التسليم والرضا وذلك بالنظر لمن هو في مقام جنة الصفات، وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم، وسبب الكظم أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها ‏{‏والعافين عَنِ الناس‏}‏ إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال، أو لأنهم في مقام توحيد الصفات‏.‏

‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏ حسب مراتبهم في الإحسان ‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏ أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة ‏{‏أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها ‏{‏ذَكَرُواْ الله‏}‏ أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه ‏{‏فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله ‏{‏وَمَن يَغْفِرُ الذنوب‏}‏ وهي رؤية الأفعال أو النظر إلى سائر الأغيار ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ وهو الملك العظيم الذي لا يتعاظمه شيء ‏{‏وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ‏}‏ في غفلتهم ونقصوا حق نفوسهم ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره ‏{‏أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ‏}‏ وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد الأفعال إلى ما فوقه ‏{‏وجنات‏}‏ أي أشياء خفية وهي جنات الغيب وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ أي تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ بلا مكث ولا قطع ولا خطر الزمان ولا حجب المكان ولا تغير ‏{‏وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 136‏]‏ ومنهم الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض للعهود ولا سهو في الشهود ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ‏}‏ بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد ‏{‏فَسِيرُواْ‏}‏ بأفكاركم ‏{‏فِى الارض فانظروا‏}‏ وتأملوا في آثارها لتعلموا ‏{‏كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ أي آخر أمرهم ونهايته التي استدعاها التكذيب ويحتمل أن يكون هذا أمراً للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة لتعلم ماذا عراها وكيف انتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن حضيض اللحوق بها ‏{‏هذا‏}‏ أي كلام الله تعالى ‏{‏بَيَانٌ لّلنَّاسِ‏}‏ يبين لهم حقائق أمور الكونين ‏{‏وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ‏}‏ يتوصل به إلى الحضرة الإلهية‏.‏

‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 138‏]‏ وهم أهل الله تعالى وخاصته‏.‏ واختلف الحال لاختلاف استعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم يسمعونه أسماع العقول، ومنهم قوم يسمعونه بأسماع الأسرار، وحظ الأولين منه الامتثال والاعتبار، وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار وقد تجلى الحق فيه لخواص عباده ومقربي أهل اصطفائه فشاهدوا أنواراً تجلى وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى ‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ أي لا تضعفوا في الجهاد ‏{‏وَلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الأخوان ‏{‏وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ‏}‏ في الرتبة ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ أي موحدين حيث أن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر ‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ‏}‏ ولم يبالوا مع أنهم دونكم ‏{‏وَتِلْكَ الايام‏}‏ أي الوقائع ‏{‏نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏ فيوم لطائفة وآخر لأخرى ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏ وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏ أي الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها ‏{‏وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله تعالى بالعقوبة والبلية ‏{‏وَيَمْحَقَ‏}‏ أي يهلك ‏{‏الكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 141‏]‏ بنار أنانيتهم ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ أي تلجوا عالم القدس ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏ أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة ‏{‏وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت‏}‏ أي موت النفوس عن صفاتها ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ‏}‏ بالمجاهدات والرياضات‏}‏ ‏{‏‏}‏ ‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ‏}‏ برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله تعالى ‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 143‏]‏ أي تعلمون أن ذلك الجهاد أحد أسباب موت النفس عن صفاتها، ويحتمل أن يقال‏:‏ إن الموقن إذا لم يكن يقينه ملكة تمنى أموراً وادعى أحوالاً حتى إذا امتحن ظهر منه ما يخالف دعواه وينافي تمنيه، ومن هنا قيل‏:‏

وإذا ما خلا الجبان بأرض *** طلب الطعن وحده والنزالا

ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاماً ولم يبق حالا لم يختلف الأمر عليه عند الامتحان، والآية تشير إلى توبيخ المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاماً ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏ أي أنه بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من بعدهم ‏{‏أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم‏}‏ ورجعتم القهقرى، والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة الحق ومعاينته، ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه‏:‏ من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت ‏{‏وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً‏}‏ لفنائه الذاتي ‏{‏وَسَيَجْزِى الله‏}‏ بالإيمان الحقيقي

‏{‏الشاكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ بالإيمان التقليدي بأداء حقوقه من الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ‏}‏ هذا الموت المعلوم، أو الموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ ومشيئته، أو جذبه باشراق نوره ‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ بمقتضى استعداده ‏{‏ثَوَابَ الدنيا‏}‏ جزاءاً لعمله ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ حسبما تقتضيه الحكمة ‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة‏}‏ جزاءاً لعمله ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ ولعلهم الذين لم يريدوا الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية، وأبهم جزاءهم للاشارة إلى أنه أمر وراء العبارة ولعله تجلى الحق لهم وهذا غاية متمني المحبين ونهاية مطلب السالكين، نسأل الله تعالى رضاه وتوفيقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَأَيّن‏}‏ كلام مبتدأ سيق توبيخاً للمنهزمين أيضاً حيث لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس‏.‏ وقد اختلف في هذه الكلمة فقيل‏:‏ إنها بسيطة وضعت كذلك ابتداءاً والنون أصلية، وإليه ذهب ابن حيان وغيره، وعليه فالأمر ظاهر موافق للرسم، وقيل وهو المشهور‏:‏ إنها مركبة من أي المنونة وكاف التشبيه؛ واختلف في أي هذه فقيل‏:‏ هي أي التي في قولهم‏:‏ أي الرجال، وقال ابن جني‏:‏ إنها مصدر أوى يأوي إذا انضم واجتمع وأصله أوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت مثل طى وشى وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم كما حدث في كذا بعد التركيب معنى آخر فكم وكأين بمعنى واحد قالوا‏:‏ وتشاركها في خمسة أمور‏:‏ الإبهام والافتقار إلى التمييز والبناء ولزوم التصدير وإفادة التكثير وهو الغالب والاستفهام وهو نادر، ولم يثبته إلا ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك، واستدل عليه بقول أبيّ بن كعب لابن مسعود رضي الله تعالى عنهما‏:‏ كائن تقرأ سورة الأحزاب آية فقال‏:‏ ثلاثاً وسبعين، وتخالفها في خمسة أمور أيضاً، أحدها‏:‏ أنها مركبة في المشهور وكم بسيطة فيه خلافاً لمن زعم أنها مركبة من الكاف وما الاستفهامية ثم حذفت ألفها لدخول الجار وسكنت للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب، والثاني‏:‏ أن مميزها مجرور بمن غالباً حتى زعم ابن عصفور لزوم ذلك ويرده نص سيبويه على عدم اللزوم، ومن ذلك قوله‏:‏

اطرد اليأس بالرجاء ‏(‏فكائن‏)‏ *** ألما حم يسره بعد عسر

والثالث‏:‏ أنها لا تقع استفهامية عند الجمهور، والرابع‏:‏ أنها لا تقع مجرورة خلافاً لابن قتيبة وابن عصفور أجازا بكاين تبيع الثواب، والخامس‏:‏ أن خبرها لا يقع مفرداً، وقالوا‏:‏ إن بينها وبين كذا موافقة ومخالفة أيضاً فتوافقها كذا في أربعة أمور‏:‏ التركيب والبناء والإبهام والافتقار إلى التمييز، وتخالفها في ثلاثة أمور‏:‏ الأول‏:‏ أنها ليس لها الصدر تقول‏:‏ قبضت كذا وكذا درهما‏.‏ الثاني‏:‏ أن تمييزها واجب النصب فلا يجوز جره بمن اتفاقا ولا بالإضافة خلافاً للكوفيين أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن يقال‏:‏ كذا ثوب وكذا أثواب قياساً على العدد الصريح، ولهذا قال فقهاؤهم‏:‏ إنه يلزم بقول القائل له عندي كذا درهم مائة، وبقوله‏:‏ كذا دراهم ثلاثة، وبقوله‏:‏ كذا كذا ردهماً أحد عشر، وبقوله‏:‏ كذا درهماً عشرون، وبقوله‏:‏ كذا وكذا درهماً أحد وعشرون حملا على المحقق من نظائرهن من العدد الصريح؛ ووافقهم على هذا التفصيل غير مسألتي الإضافة المبرد والأخفش والسيرافي وابن عصفور، ووهم ابن السيد في نقل الإجماع على إجازة ما أجازه المبرد ومن ذكر معه، الثالث‏:‏ أنها لا تستعمل غالباً إلا معطوفاً عليها كقوله‏:‏

عد النفس نعمي بعد بؤسك ذاكرا *** ‏(‏كذا وكذا لطفاً به نسى الجهد‏)‏

وزعم ابن خروف أنهم لم يقولوا كذا درهما، وذكر ابن مالك أنه مسموع لكنه قليل قاله ابن هشام، ثم إن إثبات تنوين كأين على القول المشهور في الوقف والخط على خلاف القياس لما أنه نسخ أصلها، وفيه لغات وكلها قد قرىء به‏:‏ أحدها‏:‏ كأين بالتشديد على الأصل وهي اللغة المشهورة، وبها قرأ الجمهور، والثانية‏:‏ كائن بألف بعدها همزة مكسورة من غير ياء على وزن كاعن كاسم الفاعل، وبها قرأ ابن كثير ومن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏وكائن‏)‏ لنا فضلا عليكم ومنة *** قديماً ولا تدرون ما من منعم

واختلف في توجيهها فعن المبرد أنها اسم فاعل من كان يكون وهو بعيد الصحة إذ لا وجه لبنائها حينئذ ولا لإفادتها التكثير، وقيل‏:‏ أصلها المشددة فقدمت الياء المشددة على الهمزة وصار كيئن بكاف وياء مفتوحتين وهمزة مكسورة ونون ووزنه كعلف، ونظير هذا التصرف في المفرد تصرفهم في المركب كما ورد في لغة نادرة رعملي بتقديم الراء في العمري ثم حذفت الياء الأولى للتخفيف فقلبت الثانية ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها أو حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف وقلبت الياء الساكنة ألفاً كما في آية، ونظيره في حذف إحدى الياءين وقلب الأخرى ألفاً طائي في النسبة إلى طي اسم قبيلة فإن أصله طيىء بياءين مشددتين بينهما همزة فحذفت إحدى الياءين وقلبت الأخرى، والثالثة‏:‏ كأي بياء بعد الهمزة، وبها قرأ ابن محيصن، ووجهها أنها حذفت الياء الثانية وسكنت الهمزة لاختلاط الكلمتين وجعلهما كالكلمة الواحدة كما سكنوا الهاء في لهو وفهو، وحركت الياء لسكون ما قبلها، والرابعة‏:‏ كيئن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة؛ والخامسة‏:‏ كئن بكاف مفتوحة وهمة مكسورة ونون، ووزنه كع، وورد ذلك في قوله‏:‏ ‏(‏كئن‏)‏ من صديق خلته صادق الإخا *** أبان اختباري إنه لمداهن

ووجهه أنه حذفت إحدى الياءين ثم حدفت الأخرى للتنوين أو حذفتا دفعة واحدة، واحتمل ذلك لما امتزج الحرفان والكاف لا متعلق لها لخروجها عن معناها، ومن قال به كالحوفي فقد تعسف، وموضعهما رفع بالابتداء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن نَّبِىٍّ‏}‏ تمييز له كتمييزكم، وقد تقدم آنفاً الكلام في ذلك، ولعل المراد من النبي هنا الرسول وبه صرح الطبرسي ‏{‏قَتْلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ أي جموع كثيرة، وهو التفسير المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واستشهد له كما رواه ابن الأنباري حين سأله نافع بن الأزرق بقول حسان‏:‏

وإذا معشر تجافوا عن القص *** د ‏(‏أملنا عليهم ربّيا‏)‏

وعليه فهو منسوب إلى ربة بكسر الراء وكون الضم فيها لغة غير متحقق وهي الجماعة للمبالغة وخصها الضحاك بألف، وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنهم العلماء الفقهاء، وأخرجه ابن جبير عن ابن عباس أيضاً وعليه فهو منسوب إلى الرب كرباني على خلاف القياس كقراءة الضم، والموافق له الفتح وبه قرىء وقال ابن زيد‏:‏ الرّبّيون هم الأتباع والربانيون الولاة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب قتل بالبناء للمفعول، وفي خبر المبتدأ أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه الفعل مع الضمير المستتر فيه الراجع إلى كأين أو إلى نبي وحينئذ فمعه ربيون جملة حالية من الضمير، أو من نبي لتخصيصه معنى، أو معه حال وربيون فاعله‏.‏ وثانيها‏:‏ أنه جملة ‏{‏مَعَهُ رِبّيُّونَ‏}‏ فحينئذ تكون جملة الفعل مع مرفوعه صفة لنبي وثالثها‏:‏ أنه محذوف وتقديره مضى ونحوه، وحينئذ يجوز أن يكون الفعل صفة لنبي، و‏{‏مَعَهُ رِبّيُّونَ‏}‏ حالاً على ما تقدم، ويجوز أن يكون الفعل مسنداً لربيون فلا ضمير فيه والجملة صفة لنبي، ورابعها‏:‏ أن يكون ‏{‏رِبّيُّونَ‏}‏ مرفوعاً بالفعل فلا ضمير، والجملة هي الخبر‏.‏

وقرىء قتل بالتشديد قال ابن جني‏:‏ وحينئذ فلا ضمير في الفعل لما في التضعيف من الدلالة على التكثير وهو ينافي إسناده إلى الواحد، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يكون فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة‏.‏ واعترض بأنه خلاف الظاهر، ومن هنا قيل‏:‏ إن هذه القراءة تؤيد إسناد قتل إلى الربيين ويؤيدها أيضاً ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جبير أنه كان يقول‏:‏ ما سمعنا قط أن نبياً قتل في القتال، وقول الحسن وجماعة‏:‏ لم يقتل نبي في الحرب قط ثم إن من ادعى إسناد القتل إلى النبي وأنه في الحرب أيضاً على ما يشعر به المقام حمل النصرة الموعود بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ على النصرة بإعلاء الكلمة ونحوه لا على الأعداء مطلقاً لئلا تتنافى الآيتان، وهذا أحد أجوبة في هذا المقام تقدمت الإشارة إليها فتذكر، والتنوين في ‏{‏نَّبِىٍّ‏}‏ للتعظيم‏.‏ وزعم الأجهوري أنه للتكثير‏.‏

‏{‏فَمَا وَهَنُواْ‏}‏ عطف على قاتل على أن المراد عدم الوهن المتوقع من القتال والتلبس بالشيء بعد ورود ما يستدعي خلافه وإن كان استمراراً عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة كما قال مولانا شيخ الإسلام‏:‏ صنع جديد، ومن هنا صح دخول الفاء المؤذنة بترتب ما بعدها على ما قبلها، ومن ذلك قولهم‏:‏ وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، وأصل الوهن الضعف، وفسره قتادة وابن أبي مالك هنا بالعجز، والزجاج بالجبن أي فما عجزوا أو فما جبنوا ‏{‏لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ في أثناء القتال وهذا علة للمنفي لا للنفي، نعم يفهم المنفي من تقييد المثبت بهذا الظرف وما موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من مكاره الحروب التي تعتري الكل، وإن جعلا للبعض الباقين بعد قتل الآخرين وهو الأنسب كما قيل‏:‏ بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء فهي عبارة عن ذلك أيضاً مع ما اعتراهم بعد قتل إخوانهم من نحو الخوف والحزن، هذا على القراءة المشهورة، وأما على القراءتين الأخيرتين أعني قتل وقتل على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة فقد قالوا‏:‏ إن أسند الفعل إلى الظاهر فالضميران للباقين حتماً والكلام حينئذ من قبيل قتل بنو فلان إذا وقع القتل فيهم ولم يستأصلهم وإن أسند إلى الضمير كما هو الظاهر الأنسب عند البعض بالتوبيخ على الانخذال بسبب الارجاف بقتله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإليه ذهب قتادة والربيع وابن أبي إسحق والسدي كما قيل فهما للباقين أيضاً إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال‏.‏

‏{‏وَمَا ضَعُفُواْ‏}‏ أي ما فتروا عن الجهاد قاله الزجاج، وقيل‏:‏ ما عراهم ضعف في الدين بأن تغير اعتقادهم لعدم النصر ‏{‏وَمَا استكانوا‏}‏ أي ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم قاله قتادة، وقيل‏:‏ ما خضعوا لعدوهم، وإليه يشير كلام ابن عباس، وكثيراً ما يستعمل استكان بهذا المعنى، وكذا بمعنى تضرع، واختلف فيه هل هو من السكون فوزنه افتعل لأن الخاضع يسكن لمن خضع له فألفه للاشباع وهو كثير وليس بخطأ خلافاً لأبي البقاء، ولا يختص بالشعر خلافاً لأبي حيان، أو من الكون فوزنه استفعل وألفه منقلبة عن واو السين مزيدة للتأكيد كأنه طلب من نفسه أن يكون لمن قهره، وقيل‏:‏ لأنه كالعدم فهو يطلب من نفسه الوجود‏.‏ وجوز أن يكون من قول العرب‏:‏ بات فلان بكينة سوء أي بحالة سوء، أو من كانه يكينه إذا أذله، وعزى ذلك إلى الأزهري وأبي علي، وحينئذ فألفه منقلبة عن ياء، والجمهور على فتح الهاء من وهنوا وقرىء بكسرها وهي لغة والفتح أشهر، وقرىء بإسكانها على تخفيف المكسور وفي الكلام تعريض لا يخفى‏.‏

‏{‏والله يُحِبُّ الصابرين‏}‏ على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم‏.‏ والمراد بالصابرين إما الربيون، والإظهار في موضع الاضمار للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار بعلة الحكم، وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً‏.‏ والجلمة على التقديرين تذييل لما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ‏}‏ كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية، وهو معطوف على ما قبله، وقيل‏:‏ كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية، وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها المصدر المتحصل من ‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان قولهم في ذلك المقام واشتباك أسنة الشدائد والآلام إلا أن قالوا‏.‏

‏{‏ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ أي صغائرنا ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا‏}‏ أي تجاوزنا عن الحد، والمراد كبائرنا وروي ذلك عن الضحاك، وقيل‏:‏ الإسراف تجاوز في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير، وقيل‏:‏ إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم، وسيأتي في هذه السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم‏.‏ والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضماً لأنفسهم واستقصاراً لهمهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم، على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنباً وإسرافاً على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل‏:‏ أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث إنه لا يجب على الله تعالى شيء، وفيه ما لا يخفى، وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ أي عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك ‏{‏وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ تقريباً له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ المراد من ثبت أقدامنا ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية على التحلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم، وقيل‏:‏ إنهم طلبوا الغفران أولاً ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب، وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعوّلون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى، وفي الإخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى‏.‏

وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع ‏{‏قَوْلُهُمْ‏}‏ على أنه الاسم والخبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئاً من الأشياء إلا هذا القول المنبىء عن أحاسن المحاسن، قال مولانا شيخ الإسلام‏:‏ «وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلاً كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الإخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالاً على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع، ولا يخفى أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحصول خارجاً وذهناً كان حقها أن تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنواناً للموضوع لا مقصوداً بالذات في باب البيان، وإنما اختار الجمهور ما اختار والقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالإسمية، ولا ريب في أعرفية أن قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به، وقولهم مضاف إلى مضمر وهو بمنزلة العلم فتأمل» انتهى‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ جعل ما بعد ‏{‏إِلا‏}‏ اسماً لكان، والمصدر الصريح خبراً لها أقوى من العكس لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏ يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف، والثاني‏:‏ أن ما بعد ‏{‏إِلا‏}‏ مثبت، والمعنى كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا الخ دأبهم في الدعاء، وقال العلامة الطيبي‏:‏ كأن المعنى ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول مناف لحالهم، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع ‏{‏ءانٍ‏}‏ مع الفعل اسما لكان، وتحقيقه ما ذكره صاحب «الانتصاف» من أن فائدة دخول ‏{‏كَانَ‏}‏ المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عموماً باعتبار الكون وخصوصاً باعتبار خصوصية المقال فهو نفى مرتين، ثم قال‏:‏ فعلى هذا لو جعلت رب الجملة أن قالوا واعتمدت عليه وجعلت قولهم كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت التعسف، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسياً منسياً في الوجه الثاني واعتمد على ما بعد إلا انتهى‏.‏

ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن اعتبار جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى غيره لا سيما وقد صرحوا بأن جعل الاسم غير الاعرف ضعيف، قال في «المغني»‏:‏ واعلم أنهم حكموا لأن وإن المقدرتين بمصدر معرف بحكم الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضاً كذلك فلهذا قرأت السبعة ‏{‏مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 56‏]‏ والرفع ضعيف كضعف الأخبار بالضمير عما دونه في التعريف انتهى، وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤل بأنه لا ينكر‏.‏

 وقد اعترضوا على كل من تعليلي ابن هشام والبعض، أما الاعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي تنزيله منزلة الضمير فكم اسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك المنزلة‏؟‏ وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الإسم مانع من جعله بمنزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءاً من المقتضى ولا شرطاً في وجوده، وأما الاعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر كما في ‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37‏]‏ أي افتراءاً قاله الشهاب‏.‏

وأجيب بأن مراد من قال‏:‏ إن المصدر المؤل لا ينكر أنه في مثل هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤل بمصدر منكر أصلاً، ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة «المغني» حيث يفهم منها أن أن وإن تارة يقدران بمصدر معرف وتارة بمصدر منكر وأنهما إذا قدرا بمصدر معرف كان له حكم الضمير، ومن هنا قال صاحب «المطلع» في معنى ذلك التعليل‏:‏ إن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى منكراً بخلاف ‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏ بقي في كلام «المغني» أمور، الأول‏:‏ أن التقييد بأن وإن هل هو اتفاقي أم احترازي‏؟‏ الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول‏:‏ احتجاجاً بأنه أطلق في الجهة السادسة من الباب الخامس أن الحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخص بأن وإن وللذاهب إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير كما لا يخفى، وابن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما الثاني‏:‏ أنه يفهم من ظاهره أن الاداتين لو قدرتا بمصدر منكر لا يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد لأنه قد يقال‏:‏ لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز الوصف لأن امتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم‏.‏ الثالث‏:‏ أنه يفهم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة سواء أضيف إلى ضمير أو غيره بمثابة الضمير ولم يصرح أحد من الأئمة بذلك لكن حيث إن ابن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول، الرابع‏:‏ أن ما حكم به من أن الرفع ضعيف كضعف الإخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه وبين ما ذهب إليه ابن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة المحضة في باب النواسخ بون عظيم، ويؤيد كلام ابن مالك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ حَسْبَكَ الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62‏]‏ وكأنه لتحقيق هذا المقام ولما أشرنا إليه أولاً في تحقيق معنى الآية قال المولى قدس سره‏:‏ فتأمل فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏فاتاهم الله‏}‏ أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء ‏{‏ثَوَابَ الدنيا‏}‏ أي النصر والغنيمة قاله ابن جريج وقال قتادة‏:‏ الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم، قيل‏:‏ وتسمية ذلك ثواباً لأنه مترتب على طاعتهم، وفيه إجلال لهم وتعظيم، وقيل‏:‏ تسمية ذلك ثواباً مجاز لأنه يحاكيه‏.‏ واستشكل تفسير ابن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثواباً دنيوياً ولم يصل للغانمين منها شيء‏؟‏ا وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان، وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة‏}‏ أي وثواب الآخرة الحسن، وهو عند ابن جريج رضوان الله تعالى ورحمته، وعند قتادة هي الجنة، وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى، ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي، أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين‏.‏

‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة، واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذاناً بأن ما حكى عنهم من باب الإحسان، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكى من المناقب الجليلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ‏}‏ شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان فضائله، وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الإعتناء بما في حيزه، ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه والمراد من الذين كفروا إما المنافقون لأن الآية نزلت كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه حين قالوا للمؤمنين عند الهزيمة‏:‏ ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم والتعبير عنهم بذلك قصداً إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم، وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم الإستكانة لهم وطلب الأمان منهم وإلى ذلك ذهب السدي، وإما اليهود والنصارى فالمراد حينئذ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في ذلك، وإليه ذهب ابن جريج، وحكي أنهم كانوا يلقون إليهم الشبه في الدين ويقولون‏:‏ لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً لما غلب وَلمَا أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوماً عليه ويوماً له فنهوا عن الإلتفات إليها، وإما سائر الكفار‏.‏ وذهب إلى جواز ذلك بعض المتأخرين، وأتى بإن للإيذان بأن الإطاعة بعيدة الوقوع من المؤمنين‏.‏

‏{‏يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم‏}‏ أي يرجعوكم إلى أول أمركم وهو الشرك بالله تعالى والفعل جواب الشرط‏.‏ وصح ذلك بناءاً على المأثور عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن الكلام معه في قوة ‏{‏إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ‏}‏ في قولهم‏:‏ ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم، ويؤول إلى قولك‏:‏ إن تدخلوا في دينهم تدخلوا في دينهم وفيه اتحاد الشرط والجزاء بناءاً على أن الإرتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور، وقيل‏:‏ إن المراد بالإطاعة الهمّ بها والتصميم عليها أي إن تصمموا على إطاعتهم في ذلك تردوا وترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا أبلغ في الزجر إلا أنه بعيد عن اللفظ، وجوز أن تكون جوابيته باعتبار كونه تمهيداً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَنقَلِبُواْ خاسرين‏}‏ أي فترجعوا خاسرين لخير الدنيا وسعادة الآخرة وذلك أعظم الخسران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ الله مولاكم‏}‏ إضراب وترك للكلام الأول من غير إبطال والمعنى ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ولا ينصرونكم بل الله ناصركم لا غيره وهو مبتدأ وخبر، وقرىء بنصب الاسم الجليل على أنه مفعول لفعل محذوف، والمعنى فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله مولاكم ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الناصرين‏}‏ لأنه القوي الذي لا يغلب والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والاستعانة، والجملة معطوفة على ما قلبها‏.‏ وجوز على القراءة الشاذة الاستئناف والحالية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ كالبيان لما قبل، وعبر بنون العظمة على طريق الالتفات جرياً على سنن الكبرياء لتربية المهابة، والسين لتأكيد الإلقاء، و‏(‏ الرعب‏)‏ بسكون العين الخوف والفزع أي سنقذف ذلك في قلوبهم، والمراد من الموصول أبو سفيان وأصحابه، فقد أخرج ابن جرير عن السدي قال‏:‏ «لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ثم إنهم ندموا فقالوا‏:‏ بئس ما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوا فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانهزموا فلقوا اعرابياً فجعلوا له جُعْلاً فقالوا له إن لقيت محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم فأخبر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فأنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية يذكر فيها أمر أبي سفيان وأصحابه، وقيل‏:‏ إن الآية نزلت في يوم الأحزاب، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ نصرت بالرعب على العدو ‏"‏، وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أمامة ‏"‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي ‏"‏، وقرىء ‏{‏سيلقى‏}‏ بالياء، وقرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي ‏{‏كَفَرُواْ الرعب‏}‏ بضم العين وهي لغة فيه، وقيل‏:‏ الضم هو الأصل والسكون للتخفيف، وقيل‏:‏ الأصل السكون والضم للإتباع‏.‏

‏{‏بِمَا أَشْرَكُواْ بالله‏}‏ أي بسبب إشراكهم بالذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال ولإشعار هذا الاسم بالعظمة المنافية للشركة أتى به، والجار الأول متعلق، بـ سنلقي دون الرعب ولا يمنع من ذلك تعلق في به لاختلاف المعنى والثاني متعلق بما عنده وكان الاشراك سبباً لالقاء الرعب لأنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ‏}‏ أي بإشراكه، وقيل‏:‏ بعبادته، وما نكرة موصوفة أو موصولة اسمية وليست مصدرية ‏{‏سلطانا‏}‏ أي حجة، والإتيان بها للإشارة بأن المتبع في باب التوحيد هو البرهان السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة، وسميت بذلك لأنه بها يتقوى على الخصم ويتسلط عليه، والنون زائدة، وقيل‏:‏ أصلية، وذكر عدم إنزال الحجة مع استحالة تحققها من باب انتفاء المقيد لانتفاء قيده اللازم أي لا حجة حتى ينزلها، فهو على حد قوله في وصف مفازة‏:‏

لا يفزع الأرنب أهوالها *** ولا ترى الضب بها ينجحر

إذ المراد لاضب بها حتى ينجحر فالمراد نفيهما جميعاً وهذا كقولهم‏:‏ السالبة لا تقتضي وجود الموضوع، وما ذكرنا من استحالة تحقق الحجة على الاشراك يكاد يكون معلوماً من الدين بالضرورة أما في الاشراك بالربوبية فظاهر إذ كيف يأمر الله سبحانه باعتقاد أن خالق العالم اثنان مشتركان في وجوب الوجود والاتصاف بكل كمال، وأما الاشراك في الألوهية الذي عليه أكثر المشركين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأنه يفضي إلى الأمر باعتقاد أشياء خلاف الواقع مما كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وقد ردّه عليهم، فقول عصام الملة‏:‏ ونحن نقول الحجة على الاشراك تحت قدرته تعالى لو شاء أنزلها إذ لو أمر بإشراك الأصنام به في العبادة لوجبت العبادة لا أراه إلا حلا لعصام الدين لأن لا إله إلا الله المخاطب بها الثنوية والوثنية تأبى إمكان ذلك كما لا يخفى على من اطلع على معنى هذه الكلمة الطيبة رزقنا الله تعالى الموت عليها ولا جعلنا ممن أشركوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطاناً‏.‏

‏{‏وَمَأْوَاهُمُ‏}‏ أي ما يأوون إليه في الآخرة ‏{‏النار‏}‏ لا مأوى لهم غيرها‏.‏ ‏{‏وَبِئْسَ مثوى الظالمين‏}‏ أي مثواهم وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه، والمثوى مكان الإقامة على وزن مفعل من ثويت ولامه ياء والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثواهم النار، ولم يعبر بالمأوى للإيذان بالخلود إذ الإقامة مأخوذة في المثوى دونه‏.‏